المسجد النبوي الشريف:
يقع من المدينة المنورة موقع القلب من الجسد، وإلى زيارته تهفو أفئدة المسلمين في كل بقاع الأرض. وقد كانت أرضه عند مقدم الرسول صلّى الله عليه وآله إلى المدينة مربداً ( أي مكاناً لتجفيف التمر ) لغلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة. وكان الرسول صلّى الله عليه وآله حين نزوله من قباء كلما مرّ بقوم خرجوا للترحيب به وأصرّوا على استضافته ونزوله عندهم، وربما أمسكوا بزمام ناقته فيقول: « دعوها فإنها مأمورة »، فلما وصلت به عند مكان الحرم النبوي بركتْ، فقال: « هذا المنزل إن شاء الله » وقال: « اللهم أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين » قالها أربع مرات، ثم دعا بالغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً. فقالا: بل نَهَبُه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله هبة حتّى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجداً. فطفقوا ينقلون اللِّبن وما يحتاجون إليه، ورسول الله صلّى الله عليه وآله ينقل معهم. فلقيه رجل ومع رسول الله لبنة فقال: أعطنيها يا رسول الله فقال: اذهب فخذ غيرها، فلستَ بأَفقر إلى الله مني. ولما كثر المسلمون قالوا: يا رسول الله لو زِيد فيه، فوسّعه وبناه لَبِنتان ( أي بالذكر والأنثى ) وكانوا في هذه المرة قد رفعوا أساسه قريباً من ثلاثة أذرع بالحجارَة وجعلوه مربعاً مائة ذراع في مائة ذراع، وأقيمت فيه سواري من جذوع النخل، ثم طرحت عليها العوارض والخصف والاذخر وجُعلت له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره أي في جهة القبلة اليوم، وباب عاتكة المعروف اليوم بباب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه النبيّ صلّى الله عليه وآله وهو الذي يسمى اليوم ( باب جبريل ). ولما صرفت القبلة سُدّ الباب القبلي وفُتح الباب الآخر الذي يسمى اليوم ( باب النساء ).
وقد وصف الحرم عدد من المؤرِّخين والكتّاب العرب في مختلف العهود ومنهم: ابن عبدربه ( 328 هـ ) والمقدسي ( 375 هـ ) وابن جبير ( 581 هـ ) وياقوت الحموي..
وحسب وصف هؤلاء فإن الشكل الذي حُوفِظ عليه باستمرار عبارة عن صحنٍ مفتوح يغطّي أرضه الرمل أو الحصباء وتحط به من جهاته الأربع صفوف من الأعمدة. وفي القسم الشرقي من البهو الجنوبي ذي الأعمدة يوجد قدس الأقداس، أي قبر النبي الأعظم. ويصفه ياقوت بأنه مبنىً عالٍ يفصله عن سقف البهو ذي الأعمدة فراغ من فوقه فقط. وتقول بعض الروايات إن قبر الزهراء البتول ابنة رسول الله يقع في شمال قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله، بينما تنصّ روايات أخرى على أن قبرها المطهّر موجود في البقيع. ويحمل ذلك القسم من البهو ذي الأعمدة الواقع في غرب قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله اسم « الروضة »، وهو الاسم الذي سماه به النبيّ صلّى الله عليه وآله. والمقول ان عدد الأعمدة في البهو كان يبلغ 290، وكانت الأعمدة في الجهة الجنوبية منه مزينة بأساطين من الجص، بينما كانت الأعمدة الباقية من الرخام. يضاف إلى ذلك أن الجدران كانت مزينة بالرخام والذهب والموزاييك. ويمتد على طول حدود الروضة الجنوبية حاجز يقترن به عدد من الآثار المقدّسة للغاية: مثل بقايا جذع الشجرة التي كان يتكئ عليها النبيّ محمد صلّى الله عليه وآله ومنبره. ومن نفائس الحرم الثمينة نسخة المدينة الأصلية من القرآن. وللحرم الشريف تسعة عشر باباً، لم يكن يُفتَح منها سوى أربعة: اثنان في الجهة الشرقية واثنان في الجهة الغربية. وكانت هناك ثلاث مآذن، اثنتان منها في الجهة الشمالية وواحدة في الزاوية الجنوبية.
هذا وكان عدد من سلاطين المماليك قد أبدى شيئاً من الاهتمام بالحرم المطهر، ومنهم بيبرس الأول الذي يقول مجير الدين ( القاهرة 1283م ) أنّه وضع مشبّكاً حول قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وزيّن السقف من فوقه، بينما بعث آخرون العمال والمواد للترميم، ولا سيّما المنصور قلاوون في 678هـ / 1279م، الذي بعث من يعيّن موقع القبر ويبني قبة من فوقه مغطاة بصفائح الرصاص. على أن الأشرف سيف الدين قايتباي ( 1468 ـ 1495م ) كان أول من اهتم اهتماماً جدياً فعالاً، فقوّض المنارة الرئيسية الكائنة في الركن الجنوبي الشرقي وأعاد بناءها من جديد.
وقد اكتسب الحرم النبوي الشريف شكله الحاضر بعد توسيعه من الجهة الشمالية من قبل السلطان عبدالمجيد العثماني سنة 1270هـ ( 1853 ـ 1854م ) وبعد الإضافات التي أضافها العهد الحالي إلى هذه أضافها العهد الحالي إلى هذه الجهة منذ سنة 1949م.. وثمة مشاريع يجري حالياً تنفيذها لتوسعة الحرم بشكل كبير في البناء والساحات المحيطة والمرافق التابعة.
فضل زيارة النبي صلّى الله عليه وآله والصلاة في مسجده:
أكّد رسول الله صلّى الله عليه وآله كثيراً على زيارته بعد وفاته وعلى الصلاة في مسجده الشريف، ووصل في حثّه المؤمنين على ذلك وخاصة حجاج بيت الله الحرام؛ إلى حدّ لوم من يتقاعس منهم عن زيارته في مثواه ومسجده عند قدومه لأداء فريضة الحج.. وهناك العديد من الأحاديث الشريفة التي أُثرت عنه صلّى الله عليه وآله في هذا الصدد ورواها أئمّة أهل البيت الأطهار والصحابة الكرام.
فعن الإمام علي عليه السّلام قال: « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « من زارني بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي، وكنت له شهيداً وشافعاً يوم القيامة ».
وروى الإمام جعفر الصادق عليه السّلام أن النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: « من أتى مكة حاجّاً ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة، ومن جاءني زائراً وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة ». وعن المكانة الرفيعة التي اختصّ الله تعالى بها مسجد رسوله الأكرم صلّى الله عليه وآله، يقول الإمام الصادق عليه السّلام برواية جميل بن درّاج، « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « ما بين منبري وبيوتي روضة من رياض الجنّة، ومنبري على ترعة من ترع الجنّة، وصلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلاّ المسجد الحرام ».
ولقد قرن رسول الله صلّى الله عليه وآله مسجده الشريف بالمسجد الحرام والمسجد الأقصى عند تبيانه للأماكن المقدّسة التي ينبغي أن تهوي إليها أفئدة المؤمنين، فقال: « لا تُشدُّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى ».
مساجد أخرى في المدينة المنورة:
ثمة مساجد عديدة أخرى لا زالت قائمة في المدينة المنورة بعدما جُدّد بناؤها في العهود المتلاحقة.. وهذه المساجد كان قد أمر بإنشائها الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وصلّى بها في حياته، أو صلّى في أمكنتها وأقيمت بعده وهي محل تكريم المسلمين واهتمامهم يقصدونها للصلاة والدعاء، وللتبرك بالأمكنة التي شرّفها النبيّ صلّى الله عليه وآله وخصّها بعنايته.. ومنها:
مسجد قباء:
ويقع في قباء، على بعد ميلين من المدينة، وهو أول مسجد بناه رسول الله صلّى الله عليه وآله لمّا قدم مهاجراً من مكة وفيه أقام صلّى الله عليه وآله أول صلاة جماعة ظاهرة.. كما نزلت فيه ـ على الأرجح ـ الآية الكريمة:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] لَمسجدٌ أُسّس على التقوى مِن أولِ يومٍ أحقُّ أن تقوم فيه، فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا واللهُ يحبُّ المطّهْرين
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]. وقد ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، أن الصلاة في هذا المسجد تعدل العمرة، كما أخرج ابن ماجة بسنده عن سهل بن الأحنف. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « من تطهّر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كانت له كأجر عمرة ».
مسجد المصلّى:
ويُعرف اليوم باسم ( مسجد الغمامة )، وقد كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله أرضاً لا بناء فيها، اتخذها مصلىً في الأعياد ولصلاة الاستسقاء، وقد بنى فيها عمر بن عبدالعزيز مسجداً أثناء ولايته على المدينة وجدّد بناءه السلطان ناصر بن قلاوون المملوكي، ثم أصلح في العهد العثماني.
مسجد القبلتين:
ويقع إلى الغرب من وادي العقيق، على بعد ثلاثة أميال شمالي غربي المدينة، وهو من المساجد التي صلى فيها الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله.
أمّا عن سبب تسميته، فيروى أن الرسول صلّى الله عليه وآله زار امرأة من بني سلمة هي أم مبشر، فأدركته صلاة الظهّر، فصلاّها بأصحابه في مسجد القبلتين، فلما أن صلّى ركعتين أُمِرَ أن يتوجّه إلى الكعبة فاستدار رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى جهة الكعبة. [ ولكن الأرجح هو أن الرسول صلّى الله عليه وآله قد تحوّل في صلاته من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة الشريفة في مسجده الشريف وليس في هذا المسجد ].
مسجد الإجابة:
وهو مسجد بني معاوية بن مالك ( من الأوس )، ويقع شمالي البقيع. وروي أن سبب تسميته كما جاء في حديث عامر بن سعد، أن رسول الله صلّى الله عليه وآله أقبل ذات يوم من العالية حتّى إذا مرّ بمسجد بني معاوية دخل فصلّى ركعتين، ثم انصرف إلينا فقال: « سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين، ومنعني. واحدة، سألته ألاّ يهلك أمتي بالسنة فأعطاني، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ». ولذلك سمّي بمسجد الإجابة.
مسجد الفتح:
وهو أحد المساجد السبعة الواقعة غربي جبل سلع والمعروفة « بالمساجد السبعة ». ويقال له أيضاً مسجد الأحزاب.
أما سر تسميته ( بمسجد الفتح ) فلأنه استجيبت فيه دعوة النبيّ صلّى الله عليه وآله على الأحزاب، فكان ذلك فتحاً على الإسلام، أو لأن الله تعالى أنزل فيه سورة الفتح على رسوله. وقد أعاد بناءه عمر بن عبدالعزيز وجدّد بناءه الأمير سيف الدين الحسين بن أبي الهيجاء، كما جدّد بناء المسجدين اللذين يقعان تحته وهما مسجد سلمان الفارسي وعلي بن أبي طالب عليه السّلام.
البقيع:
وهو أحد المواقع الشهيرة في المدينة المنورة، وذلك لكونه مدفناً لعدد من عظماء المسلمين وأئمتهم وأعلام الأنصار والمهاجرين. وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله يقصد البقيع كلما مات أحد الصحابة ليصلِّي عليه ويحضر دفنه. وقد يزور البقيع في أوقات أخرى ليناجي الأموات من أصحابه ويطلب لهم الرحمة.
وقد روى مسلم في الصحيح عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله كلما كانت ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول:
« سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، وإنّا إن شاء اللهُ بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد ».
وتضم هذه البقعة المشرّفة مدافن شخصيات كبيرة من المسلمين الأوائل والأئمّة كالعباس بن عبدالمطّلب والسيدة فاطمة الزهراء عليها السّلام وإبراهيم ابن النبيّ صلّى الله عليه وآله، والإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السّلام.. وكذلك مدفن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السّلام، وابنه الإمام محمد الباقر عليه السّلام، وحفيده الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام. وكانت هناك مقامات على الأضرحة، إلاّ أنها هُدمت في وقت متأخّر وسُوّيت بالأرض.
ويضم البقيع أيضاً مدافن لعددٍ كبير من التابعين.
وقد زار الرحّالة ابن جبير في القرن السادس الهجري البقيع، ووصفه وصفاً دقيقاً.. كما مرّ به ابن بطوطة بعده بما يقرب من 150 سنة وكان وصفه له مُطابقاً لما ذكره ابن جبير.
والمعروف أن أول شخص في الإسلام دُفن في البقيع هو عثمان بن مظعون، باعتباره أول من توفي في المدينة من المهاجرين.. ففي اليوم الثالث من شعبان سنة 3 للهجرة قبّل النبيّ صلّى الله عليه وآله جبين جثته وأمر بدفنها في مدى الرؤية من مقره، وكان المكان آنذاك حقلاً ينتشر فيه عدد من أشجار الغرقد.