الكفراوي.. أعظم البنائين
حسب الله الكفراوي
يضن الزمان علي مصر بواحد مثل حسب الله الكفراوي، البناء العظيم، أحد أفراد سلالة الفراعنة البنائين، الذين خلفوا آثارهم وشواهدهم الخالدة علي أرض مصر المحروسة منذ آلاف السنين، فسار الكفراوي علي نهجهم منذ شبابه الغض، حاملاً جيناته الفرعونية وتاركاً بصماته في جميع المواقع الإنشائية التي تولاها.
الكفراوي الذي حلم والده الشيخ الجليل بأن أحد أبنائه سيصبح قاضياً عادلاً، والآخر وزيراً فحقق الله له حلميه في حياته.
«وزير الغلابة».. هو اللقب الذي احتكره ـ ولايزال ـ المهندس حسب الله الكفراوي وزير الإسكان الأسبق ليضفي علي «الاحتكار» معني استثنائياً قلما يتكرر في تاريخ «النظام».
تخرج الكفراوي عام ١٩٥٥ في كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية ليلتحق بمشروع السد العالي، حيث كانت مصر تولد من جديد، وبعد ست سنوات قضاها هذا الدمياطي هناك أصبح رئيساً للمنطقة الجنوبية بكهرباء السد.
احتاج الأمر لوسامين من الرئيس عبدالناصر وثالث من الرئيس السادات قبل أن يعود الكفراوي إلي «دمياط» محافظاً يستكمل مسيرة نجاح احترفه، ويصبح المرشح الأوحد لتولي مسؤولية الإسكان في الفترة الحرجة التي أعقبت نهاية حرب ١٩٧٣ وبداية إعادة التعمير.
في ٧٧ تحديدا أصبح الكفراوي وزيراً للإسكان بروح وأسلوب «فلاح مصري يخاف علي بلده»، كما يصفه المهندس صلاح حجاب الخبير الإسكاني المعروف.
سبعة عشر عاماً قضاها الكفراوي وزيراً، لم تقترب خلالها منه شبهة واحدة ولم يعرف أن له «بيزنس» خاصا تعاقب عليه سبعة رؤساء للوزارة ورئيس جمهورية، تمسكوا به جميعاً،
رغم استقالاته المتعددة، اتفق عليه الحكوميون والمعارضون، رفض طلباً للسادات بمقابلة أرييل شارون ـ وزير البيئة التحتية في إسرائيل وقتها ـ للاتفاق علي مشرعات تعمير حول بحيرة السد العالي، مؤكداً للسادات عدم رضائه علي إقامة مشروعات إسرائيلية علي الأرض المصرية فنال احترام السادات وتوجه «الشعب» بطلاً.
ويبقي للكفراوي ـ بحسب الخبراء ـ مشروعه الأهم، الخاص بالمجتمعات العمرانية الجديدة، وهو الأمر الذي يصفه صلاح حجاب بأنه تأسيس للمستقبل الذي أصبح واقعاً نعيشه.. رسم الكفراوي وأشرف علي تنفيذ مشروعات الجيل الأول من المدن الجديدة، وغادر الوزارة بعد أن أصبح عددها ١٧ مدينة جديدة، بالإضافة إلي ست مناطق تعميرية بمناطق القناة والساحل الشمالي وسيناء، وفي عهده بدأت الخطوات الأولي لإنشاء الطريق الدائري الذي يربط العاصمة بالمدن الجديدة.
ولأنه كان وريثاً وابنا باراً لحضارة قامت علي «المعمار» فهو أيضا أحد البنائين العظام، لم يتوقف الكفراوي يوماً عن التفكير في المستقبل، واضعاً في اعتباره أن الناس ليسوا فقط من يقيمون في العاصمة. وإلي جوار مشروع الصرف الصحي بالقاهرة،
والذي يعد الأضخم من نوعه، أقام خطوط المياه التي تربط المدن المختلفة مثل خط الكريمات الذي يبدأ من جنوب الجيزة وينتهي في الزعفرانة بمحافظة البحر الأحمر، والخط الذي يربط قنا بالغردقة وسفاجا وكان أول من فكر وخطط من أجل توصيل مياه الشرب النقية إلي سيناء عن طريق القنطرة.
في تخطيطه للمدن الجديدة، كالعاشر من رمضان والسادس من أكتوبر وغيرهما حرص الكفراوي علي تمثيل جميع الشرائح والطبقات، خاصة من يستحقون سكناً آدمياً من الطبقة الوسطي والشرائح الأدني.
وكان الرجل يعمل بطاقة مؤسسة كاملة، يفكر ويخطط وينفذ ويشرف علي مشروعات بامتداد مصر، ويبتكر حلولاً للمشكلات المزمنة.
أنشأ بنك الإسكان والتعمير كأول بنك من نوعه في مصر، لتكون مهمته تمويل الاستثمار في المجال العقاري، واحتل مقعد نقيب المهندسين بأغلبية كاسحة لم يسبقه أو يلحقه إليها نقيب آخر، ومازال العشرات ممن احتكوا به بشكل مباشر أثناء عمله مهندساً ومحافظاً،
ثم وزيراً ونقيباً يذكرون أيامه بالخير، ويصفونه بأنه «ابن بلد» لم يتربح من أي من مناصبه ولم يأخذ يوماً بالوشايات، ولم تكن نزاهته يوماً موضعاً للشك أو للأقاويل، لذلك لم تقل مساحة الحب التي احتلها في قلوب الشعب المصري بعد تركه الوزارة، وظل الكفراوي «وزيراً للغلابة»، وربما كان الوحيد الذي استحق هذا اللقب وحمله لسنوات وسنوات.
لهذا كله لم يكن غريبا أن «يصمت» الكفراوي طويلا بعد خروجه من الوزارة.. والمؤكد أن «صمته» لم يكن اختيارا شخصيا، ولكنه كان ـ ومازال ـ ملمحاً رئيسياً لنظام لا يحتمل شهادة وزير لم يتربح من مناصبه.