محمد (صلى الله عليه وسلم)
للعلامة محمد بهجت البيطار (ت: 1396هـ)
نشر عام 1359هـ
من تصفَّح كتب السيرة النبوية الشريفة التي صاغها الحكماء قديماً وحديثاً، أو استجلى سيرة النبي الأعظم من صفحات الوجود، كان جِدَّ عليمٍ بأنَّه أعظم مصلح ظهر في هذا الكون، ورأى أنَّ تعاقب الأجيال لم يزد هذه الحقيقة إلا جلاءً وصقالًا؛ فهو إن ذُكر العظماء كان أعظمهم، وإذا ذُكر الرسل والأنبياء كان مقدَّمهم وخاتمهم.
نشأ يتيمًا فاقد الأبوين، فلم نرَ من ذوي الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات من تربَّى تلك التربية الطاهرة، واشتغل- على حداثة سنِّه- بما يعود على كافليه بالخير والبركة والمعاونة.
سافر بتجارة لخديجة بنت خويلد، فكان المثل الكامل في كلِّ عصر بقوة نشاطه، وعظيم أمانته، وأرباحه في تجارته.
تزوَّج بخديجة، فلم يكن بزواجه أنانيًّا ولا شهوانيًّا، بل كان وهو ابن خمسة وعشرين عاماً مضرب المثل في العفة والاستقامة، والاكتفاء بامرأة مسنَّة أيِّم، كانت قبله ذات زوج وولد، وهي أُولى أزواجه، وأُمُّ أولاده، وقد عاش معها ربع قرن كامل، ولم يتزوج عليها أحدًا، وإنما تزوج بعدها سودة بنت زمعة، وعاش بمكة حتى بلغ من العمر 53 عامًا لم يجمع فيها بين اثنتين أصلًا.
أما تزوُّجه في المدينة- في بضع سنين- بتلك النسوة الثاكلات الأيامى، وذوات الأولاد اليتامى- فلمصالح زوجية واجتماعية، وأسباب خاصة وعامة، مبسوطة في كتب السيرة الشريفة القديمة منها والحديثة، اللهم إلا عائشة التي بنى بها في المدينة وهي بنت تسع سنين، وبقيت كخديجة آية على وجه الدهر في حبها وإخلاصها لزوجها، ووفائها له، ثم كانت إحدى معجزاته الخالدة في مشكلات التفسير والحديث والفتاوى والأحكام، ومسندها في مسند أحمد بن حنبل يقع في (253) صفحة، وعلى رواياتها المعوَّل في معرفة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل في بيته.
كان أمر المرأة في التاريخ القديم والحديث عجبًا، فمنهم من وَأَدَها، ومنهم من عبدها!
لكن الإسلام هو الذي أنزلها المنزلة اللائقة بها، فهو قد منحها حقوقها، وعرَّفها واجباتها وآية: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}. لا يوجد في الدنيا قانون أعدل ولا أجمع منها، إذ قد ساوت بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وخصت الرجل بدرجة الرئاسة الشورية على الأهل والأولاد؛ فالإسلام لم يستعبد المرأة كما فعلت الأمم السابقة، ولم يقلب نظام الطبيعة؛ ليجعل منها رجلًا ثانيًا كما فعلت الأمم الحديثة المتمدنة؛ فقد تخلَّى عنها عندهم الأب والأخ والابن، ودفعوها جميعًا في تيار العمل خارج المنزل، فشقيت، وشقي الرجل بها ومعها.
زعموا أنَّ الإسلام قد هضمها حقَّها في الميراث، أوَلا يذكر هؤلاء أنَّ ميراثها ومهرها لها، وأنَّها تتصرف في أموالها كيف شاءت؟
وهل تملك المرأة الحديثة من مال زوجها أو من مالها عنده من التصرف المطلق ما تملكه المرأة المسلمة؟ كلا إنَّها لا تملك حقَّ التصرف في مالها بغير إذن زوجها.
زعموا أنَّ الإسلام قد جعلها بنصف عقل الرجل في كل شيء! أوَلا يعلمون أنَّ أصل هذه المسألة هي آية المداينة في آخر سورة البقرة، ومنها قوله تعالى: [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ] وعلل ذلك بقوله: [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى] أي إذا نسيت إحداهما أذكرتها الثانية، فإذا كان الرجل في مقام امرأتين فيما ليس من خصائصها، ولا هو من وظائفها، وهو يُنسى عادة من مثلها، أفلا تعد المرأة بمنزلة رجلين في شؤونها المنزلية، وأمورها الداخلية، وهل ينقص هذا من قدره شيئًا يا تُرى؟
ألم يفرق الرسول صلى الله عليه وسلم بين عقبة بن الحارث وزوجه أُمِّ يحيى بنت أبي إهاب مذ شهدت أمة سوداء بأنها أرضعتهما؟ والحديث في الصحيح.
وهل جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ناقصة العقل، ضعيفة الذاكرة، فيما هو من خصائصها، أم قَبِل خبرها وحدها بعد نحو عشرين عامًا تقريبًا؟
وأما كونها بنصفِ دين، فالدين كالإيمان يُطلق على الصلاة، وللمرأة عادتها الطبيعية في الحيض وفي النفاس، والشارع قد أسقط عنها الصلاة في تلك المدة طالت أو قصرت [ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ].
بخلاف سائر أركان الإسلام كالزكاة والحج والصيام فإنها مطالبة بأدائها كاملة كالرجل.
وجملة القول أنَّه صلى الله عليه وسلم أكبر المصلحين، وأكمل الأنبياء، وأشرف الخلق، وأجدر الناس بالمحبة والطاعة والاتباع.
اختيار موقع الدرر السنية :
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]المصدر: مجلة الهداية الإسلامية الجزء التاسع من المجلد السابع الصادر في ربيع الأول 1354هـ. نقلا عن مقالات لكبار كُتَّاب العربية في العصر الحديث لمحمد إبراهيم الحمد.