لم أشعر بالقلق عندما سمعت وصف الوحدة العربية ب" الخرافة ". مع أن الوصف صدر عن الباحث المعروف الطاهر لبيب ، وهو منذ ستة عشر عاما ينظم ملتقى سنويا لعلماء الإجتماع العرب الشباب . فالخرافة تظهر عندما يعجز العلم عن تفسير لظاهرة ما . وكم من الخرافات والأساطير كان لها فعلها وحضورها أكثر من الوقائع المادية الملموسة . وعلى أهمية الخرافة في حياة البشر إلا أن الوحدة العربية المختلفة تظل حلما له إمكانية التحقق بتجليات يصعب حصرها وتحديدها . وجدتني أتفق كثيرا في ورشة العمل التي عقدها مركز الدراسات الاستراتيجية مع طروحات الدكتور سعدالدين إبراهيم الذي أشرف على الاستطلاع الوحيد عن الوحدة العربية قبل زهاء ثلاثين عاما . فهو مسترشدا بما تحقق في الاتحاد الأوروبي يرى مشروعية في حلم الوحدة وإمكانية للوصول إلى صيغ وحدوية لا تصل إلى مرحلة الوحدة الإندماجية .
حلم الوحدة الأوروبية بدأ في خيال سبينيلا ؛مثقف معزول في جزيرة في أتون الحرب العالمية الثانية عام 1942 ، كانت أوروبا تمزقت شر ممزق وسالت دماء ملايين البشر ( أكثر مما سال في العالم العربي ) ، وجد المثقف في أن الخروج من دوامة الاحتراب يتطلب بناء نموذج جاذب ولو نظريا . وهو ما ذكر بفكرة عالم أميركي في سنوات الكساد التي أتت على الاقتصاد الأميركي ،في حينها ظهرت فكرة بناء مبنى الأمبير ستيت أعلى مبنى في العالم .
في العالم العربي نحتاج إلى فكرة الوحدة العربية أكثر من أي وقت ، لأن الخروج من حال التجزئة والانقسام والتشظي وصولا إلى الحرب الأهلية يتطلب فكرا لا يستسلم للواقع الآسن وإنما يتمرد عليه ويتجاوزه . فوق ذلك ثمة وقائع ومؤسسات تؤكد أن كثيرا من العرب يؤمن بوجود الأمة الواحدة . قارن سعدالدين إبراهيم بين الاستطلاع قبل ثلاثة عقود والواقع الراهن ، أعتبر أن شبكة الجزيرة الفضائية دليل ملموس على وحدة العرب الذين يتوقون لسماع أخبار بعضهم ، أبعد من ذلك إعتبر باحثون أن تلفزيونات الترفيه مثل إل بي سي والذي بدأ محطة للقوات اللبنانية التي يعتبر أنصارها أنفسهم ليسوا عربا آلت إلى قناة عربية تتجاوز الطائفة والعرق بدافع المصلحة التجارية أولا وليس ولاء للفكر القومي .
ليس الإعلام وحده يوحد العرب ، ثمة مؤسسات مجتمع مدني موحدة وفاعلة :إتحاد المحامين العرب ، والمهندسين ، والصحفيين ,غيرهم . حتى تجربة دبي التي تمثل العولمة حرفيا خرج منها منتدى رجال الأعمال العرب الشباب ، مجتمع المعلومات أنتج شبكات مثل إتحاد المدونيين العرب ، يتواصلون عبر فضاء الإنترنت بلا حدود ولا جوازات سفر .
أطرف ما في حديث سعدالدين إبراهيم أن فكرة مركز دراست الوحدة العربية بدأت باتصال بينه وبين سعدون حمادي ( القيادي البعثي المعروف ) وعندما بدؤوا فكرة الاستطلاع عارضته أعلى الدول صوتا في في المطالبة بالوحدة العربية ، وهي العراق وسورية وليبيا . وهو ما يكشف أن ألد أعداء الوحدة هي الأنظمة الدكتاتورية مهما رفعت من شعارات . في المقابل كانت أنجح المشاريع الوحدوية هي من مؤسسات المجتمع المدني ورجال الأعمال . بعد عقود ثلاثة العالم العربي يبدو بصورة أفضل حتى على المستوى الرسمي ، ثمة مشاريع وحدة اثبتت نجاحا مثل الوحدة اليمينة ،حتى حال الانقسام والاحتراب أكد أن العروبة خيار لا مفر منه . الأكراد في العراق يستطيعون اليوم الانفصال لكنهم لا يفعلون ليس انبهارا بالعروبة وتخليا عن قوميتهم وإنما لأن مصلحتهم مع العالم العربي .
وفي العراق أيضا لماذا لم تستطع أميركا حتى اليوم من منع المقاتلين العرب من دخول العراق ؟ تطوان في أقصى الغرب أطلق عليها في صحيفة الجارديان " مدينة الإنتحاريين " . هل أولئك الشباب يؤمنون بالتجزئة والدولة القطرية ؟ الواقع يؤكد أن ثمة عالم عربي ينزع للتوحد ولو بدا أنه يتمزق ويحترب . بعدعقود ثلاثة من الاستطلاع الثاني المزمع ربما يجري استطلاع عن تجربة الاتحاد العربي ويتذكر باحث ما أن مثل هذا الاتحاد كان يوصف ب" الخرافة " .